الكاتب: إيفان إيليتش
من كتابه: الطاقة والإنصاف
بعد تجاوز سقف معيّن لاستهلاك الطاقة، تحدد صناعة النقل تكوين الفضاء الاجتماعي. يتسع الطريق ويغرق كزاوية في قلب المدينة ويفصل بين الجيران السابقين.
يدفع الطريق الحقول بعيدًا عن متناول الفلاح المكسيكي الذي يرغب في الوصول إلى هناك سيرًا على الأقدام. في البرازيل، تنقل سيارة الإسعاف مكتب الطبيب إلى ما بعد المسافة القصيرة التي يمكن أن يحملها طفل مريض.
في نيويورك، لم يعد الطبيب يقوم بزيارات منزلية لأن السيارة جعلت المستشفى المكان الوحيد للمرض. بمجرد أن تصل مركبات البضائع الثقيلة إلى قرية مرتفعة في منطقة الأنديز، يختفي جزء من السوق المحلي. بعد ذلك، عندما تستقر المدرسة الثانوية في الساحة، في نفس الوقت الذي يتمُّ فيه فتح الطريق المعبَّدة، يغادر المزيد والمزيد من الشباب إلى المدينة إلى حد أنّه لا توجد عائلة لا تأمل في الانضمام إلى أحد أفرادها، المقيم على الساحل، على بعد مئات الكيلومترات.
على الرّغم من الاختلاف في المظاهر السطحية التي تثيرها، فإن السرعات المتساوية لها نفس التأثيرات المشوّهة على تصور المكان والزمان والقوة الشخصية في البلدان الفقيرة كما في البلدان الغنية.
إن الصناعة تصوغ نوعًا جديدًا من الإنسان في كل مكان، يتكيّف مع جداول النّقل الجديدة والجغرافيا الجديدة.
تُشَكِّلُ صناعة النّقل مُنْتَجَهَا: المستخدم. مطروداً من عالم يمتاز فيه الأفراد بالاستقلاليّة، فقد الانسان أيضًا الإحساس بأنه في مركز العالم. إنه يدرك أنّ الوقت ينفد على الرّغم من أنّه يستخدم السيارة والقطار والحافلة والمترو والمصعد كل يوم وكل ذلك لقطع مسافة 30 كيلومترًا في المتوسط وغالبًا في نطاق أقل من 10 كيلومترات.
الأرض تنزلق تحت قدميه، وهو ثابت على العجلة. سواء كان يستقل المترو أو الطائرة، فإنه يشعر دائمًا أنه يتحرك بشكل أبطأ أو أقل جودة من الآخرين، كما أنّه يشعر بالغيرة من الاختصارات التي يتخذها المتميّزون للهروب من الإحباط النّاتج عن حركة المرور. مقيّدًا بمواعيد قطار الضواحي و يحلم بامتلاك سيارة.
بعد أن أنهكته الاختناقات المرورية خلال ساعة الذروة، يحسد الأثرياء الذين يسافرون في الاتجاه المعاكس. يدفع ثمن سيارته من جيبه، لكنه يعلم جيدًا أن الرئيس المدير العام يستخدم سيارات الشركة أو أن البنزين يسدد النفقات العامة أو أن لديه سيارة مستأجرة بدون مال.
يجد المستخدم نفسه في أسفل المقياس حيث تتزايد باستمرار عدم المساواة وقلّة الوقت وعجزه الشخصي. ولكن من أجل وضع حدّ لها، فإنّه يتمسك بالأمل المجنون في الحصول على المزيد من الشيء نفسه. الشيء: تحسين التداول عن طريق النقل الأسرع.
ويدعو إلى إدخال تحسينات تقنية على المركبات وممرات المرور والجداول الزمنية؛ أو يدعو لثورة تنظم النقل العام السريع بتأميم وسائل النقل. إنه لا يحسب أبدًا السعر الذي سيكلّفه نقله بهذه الطريقة إلى مستقبل أفضل.
إنّه ينسى أنّ أيّ تسريعٍ إضافيٍّ سيدفعه بنفسه في شكل ضرائب مباشرة أو ضرائب متعددة. لا يقيس التكلفة غير المباشرة لاستبدال السيارات الخاصة بمثل هذا النقل العام السريع. إنه غير قادر على تخيّل فوائد التخلّي عن السيارة والاعتماد على قوة العضلات الفردية.
لا يرى المستخدم عبثية التنقل اعتماداً على وسائل النّقل. لقد شوّهت الصّناعة إدراكه التقليدي للمكان والزمان و لإيقاعه الخاص. لقد فقد الحريّة في تخيّل نفسه في دور آخر غير دور مستخدم النّقل.
إنّ هوسه بالحركة يسلبه من القوّة الجسديّة والاجتماعيّة والنفسيّة التي تنعم بها قدميه. يرى المستخدم نفسه كجسم يُحْمَلُ بأقصى سرعة عبر مساحة لا يمكن الوصول إليها.
سائق سيّارة يسلك الطرق الإجبارية دون الاستيلاء على الأرض ودون أن يتمكن من تحديد مجاله هناك. إذا تُرك لنفسه، فهو ساكن، منعزل وبلا مكان.
بعد أن أصبح الإنسان شيئًا يجب نقله صار يتكلّم لغة جديدة. يذهب بالسيارة “للعثور” على شخص ما و “يتصّل بالهاتف للتواصل”.
بالنسبة له، حريّة التنقل هي مجرد حرية النقل. لقد فقد الثقة في القوة السياسية التي تأتي من القدرة على المشي والكلام. وهو يعتقد أن النشاط السياسي هو المطالبة باستهلاك أكبر لهذه الخدمات التي تعادل سلعة بسيطة.
إنه لا يطالب بمزيد من الحرية للمواطنين المستقلين، ولكن من أجل خدمات أفضل للعملاء الخاضعين. إنّه لا يكافح من أجل ضمان حريّته في التنقّل والتحدّث مع الآخرين بطريقته الخاصّة، ولكن لتأكيد حقّه في أن يتمّ نقله واطلاعه. إنّه يريد منتجات أفضل ولا يريد كسر السلسلة مع تلك المنتجات.
إنه بحاجة ماسّة إلى فهم أنّ التّسريع المطلوب سيزيد من سجنه. وبمجرد تحقيقه، ستمثل مطالبه نهاية حريته ووقت فراغه واستقلاله.