الكاتبة: .أ.هالة العتيري
كيف يسعني أن أُشرّح نصوصا شهدتُ بعيني ولادتها و سمعتُ صرختها ما إن غادرت عالم الإمكان واستقرّت في عالم الوجود و الإنجاز؟
كيف يمكنني أن أدرس كلاما منضودا على ورق وأنا التي ألِفْتُ معانيه منذ أن كانت شعورا محلّقا وأفكارا شاردة وتأمّلات حائرة وثرثرات لا تنتهي أيّام جمعتني بك مقاعد الدراسة وأحلام الحرية والتحرّر…
أيّام كنت تحدّثني عن أوجاعك وعن أفق رحب سنرى فيه أحلامنا تُزهر يوما، و تقسم لي في ثقة طفل صغير : “إنّا لنا.. إنّا لنا..”
و هاهي اليوم نصوصك بين يديّ و قد تغيّر الزّمان وضاق بنا المكان و مازال الحلم واحدا: حلم الحرية …”حتّى تدوم سعادت[نا] و يظلّ نبض القلب ملْء الأوردة..”
ولستُ أدري أيّ نهج أتّبع؟ أنهجَ الدّراسة النّقدية الصّارمة التي قد ترى في نصوصك ما يمكن أن يراه غيري من النّقاد متى سخّروا الأدوات النّقدية و المنهجية نفسها؟ أم نهج القراءة العاشقة التي لا يقدر عليها إلّا من شاطرك
الذّكرى ..
“و أيّ ذكرى.. أيّ ذكرى.
من فراغ ميّت الآفاق صحرا…
ذكرى عشقك الأوّل، عشق الأرض التي آلمتك و لم تبادلك هوى بهوى.. لا تهمني حدودها الجغرافية، و لا يعنيني إن كان حديثك عن أرض تونس أو فلسطين أو غيرهما. ما يهمني أنّ نصوصك لا تُلخًّص علاقتك بالأرض في مجرّد الشعور بالانتماء ، و إنّما تروي لنا حكاية عشق لا يعرف اليأس رغم الصدّ والمنع، و لا يعرف غير الوفاء والعَوْد على بدء كلّما وصل بك إلى طريق مسدودة، تُغذّيه الذّكرى و يوقده “رجع الصّدى” شمسا ضحوكا تبدّد ظلام المقبرة..
في كلّ فجر مقبل شمس
وأزهار تُعَرِّشُ في القبور ومئذنه..
فالشمس تولد بكرة من مشرق وأصيلها
في الغرب تسكن مقبرة
ذكرى صبح عشتَهُ يوما حقيقة أو في الخيال، لستُ أدري.. و لكنني أعلم أنّه أبى أن يفارقك ، فسكنك، وسكن نُصوصك، و لم يكن شعرك سوى استرجاع لتلك الذكرى.. حتّى لكأنّ الذّكرى ومتعلّقاتها تكاد تكون وحدها أثاثا للنّصوص: كيف لا و المجموعة لا تكاد تخلو قصيدة من قصائدها من معجم التذكّر والاسترجاع. فلكأنّ الذّكرى غازية كلَّ ما به يستقيم كيانُك الشّعريّ: خيالك و رو حك و حواسّ جسدك.
“لا شيءَ إذن غيرُ الذكرى
ترسم الليلة في المخيالْ”
هى الذّكرى تسكنك.. و تتجاوزك لتسكن كلّ من قلّب الّنظر في شعرك متى سمع فيه أصداء نصوص أخرى عشقتَها و ألفتها حتّى لكأنّها استحالت جزءا من كيانك و دما ساريا في شريان قصائدك… تسمع رجعها وتوقن أنّها حاضرة في النّصّ و لا تكاد تجد لها أثرا واضحا صريحا.
هي ذي الكلمة القرآنيّة :”اقرأ” و قد أسريْتَ بها إلى كوْن جديد لم نألفه بعد، كون الثورة والسّياسة، و رفعتها رايةً
حتّى تُقْلَب المعادلة
فجميع من في الحكم يحلم
أن يعوّض شعبه شعب جديدْ
و هو ذا الموتُ موضوعا احتفى به من قبلك الشعراء ، يُجدّد كساءه و “تُزهر من جسد[ه] الأعضاء” فيحضر في بعض القصائد و يستقلّ بنفسه في بعضها الآخر، و لا يمكن أن يمرّ عليها المرْء دون أن يداعب خياله صوت محمود درويش مرتّلا جداريته أو صوت مارسيل خليفة مؤدّيا قصيدة الجسر لخليل حاوي.. ولكنّ صوتك يعلو على همهماتهم ، فيبسم المرء ويعجبُ من أمرك كيف صُغتَ من الموت “أغنية” و “ترنيما”… تلك هي فلسفتُك في الشعر كما في الحياة: ” لا بُدّ لليل من أغنيات”.. و لابدّ لكلّ مغيب شمس من فجر ، و لا بدّ لكلّ يوم منقض من غد أجمل، و لا بُدّ لكلّ حلم يُحتضر من أمل. ستُزهر دماء الشّهداء يوما أينما نزلت، على أرض تونس أو
فلسطين أو غيرهما.. و لنردّد معا إلى حينها
على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
ليس الشّعر عندك إذن كونا استعاريّا بعيدا عن الواقع و مشاغله، و لا هو احتكاك باليوميّ والسّياسيّ على نحو مبتذل، و إنّما هو تلك المعادلة الصّعبة التي يرى شخصي المتواضع أنّك وُفّقت فيها إلى حدّ كبير، و التي قُلت عنها ذات صائفة في لقاء جمعنا إعدادا لحصّة من برنامج “رمية النّرد” على موجات الإذاعة الثّقافيّة:
“الشعر الحقّ عندي هو ما يفيض من الروح فيلامسُها ويعبّر عنها… هو ذلك الشيء الذي لا يحتاج معجما لنفهمه رغم استعاراته ومجازاته التي لا يحيا إلاّ بها…هو عالم مواز ننسُجه من أوجاع الحياة ليكون ملاذا نستريح فيه قبل معاودة الحياة… فالنفس تغفو ساعة وتعود.
على أنّني لا أمانع أن يكون الشعر محاكاة للواقع إذا ماكان منخرطا في سياق تاريخيّ حاسم في حياة الشعوب، فلا بدّ من أن ينخرط الشاعر في سياق بيئته ومجتمعه ليكون مثقّفا حقّا. من ذلك مثلا أن نجد في الشعر صدى للثورات وللنضال بجميع أنواعه من أجل القضايا الإنسانيّة العادلة كالحريّة و مكافحة الفقر.”
لا يسعني ختاما إلّا أن أعانق فيك روحَ الفنّان… ذاك الذي يرى في الكون ما لانراه، يتشاءم متى تفاءلنا ويتفاءل متى تشاءمنا و يُزلزل الأرض من تحت أقدامنا كلّما اطمأننا إلى رأي أو موقف.
صديقي…
“لا تبتئس..
والناس عنك لواهيَا
تفنى المحبّة والجذور بواقيَا…”