مقال مترجم للكاتب توم ماك تاج
نشر في ذي أتلانتيك 27 جانفي 2022
أن تلعب الشطرنج ضد الولايات المتحدة مشابه للعب ضد شخص أبله: فهو يتبختر على رقعة الشطرنج، ويُسقط القِطع ويثير الفوضى في كل مكان، ومن ثم يُعلن النصر..هذه المقولة الشهيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي يحب تكرارها كلما ذكر الصراع بين روسيا وأمريكا ,على النقيض من ذلك يُعد بوتين لعب الشطرنج مع أوروبا أشبه باللعب مع طفل نسي قواعد اللعبة، وزعم أنه اخترع قواعد جديدة، ومن ثم يغضب عندما لا يرغب أحد في اللعب معه.
يشير الكاتب توم ماك تاج في مقاله المنشور في صحيفة ذي أتلانتبيك إلى أن كثيرًا من الناس في أوروبا، بما في ذلك المملكة المتحدة، يُريحون أنفسهم منذ مدة طويلة بعبارات مبتذلة من قبيل أن «القوة الصلبة» لم تعد مهمة، وأن مجالات النفوذ باتت جزءًا من الماضي، بل والجغرافيا السياسية نفسها أصبحت مسألة تشبه الأسْمَال البالية إلى حد ما، ثم أرسلت روسيا 100 ألف جندي إلى الحدود الأوكرانية. وفجأة انتهى وقت اللعب، ومرةً أخرى أصبح الأمن المستقبلي لأوروبا يقرره شخص آخر في مكان آخر.
ليس هناك حاجة إلى المبالغة في تقدير الوضع. فالقوى الكبرى في أوروبا ليست غائبة في هذه الأزمة الأوكرانية، وآية ذلك أن بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص تلعبان أدوارًا بارزة: تنال لندن الاستحسان في أوروبا الشرقية لموقفها الاستباقي المصمم على أن يكون لأي تدخل روسي تداعيات مؤلمة (على روسيا) قدر الإمكان، وتمضي باريس في طريقها الخاص؛ إذ تستضيف قمة للأوكرانيين والروس باعتبارها جزءًا من المحادثات الطويلة الأمد في إطار صيغة «نورماندي» التي تشمل أيضًا ألمانيا. وفي كل مرحلة من مراحل هذه الأزمة، تُستشار القوى الكبرى في أوروبا من جانب إدارة أمريكية يبدو أنها تأخذ خطابها حول التحالفات على محمل الجد.
ومع ذلك، وبالعودة إلى الوراء لمجرد لحظة، نجد أن الوضع غير عادي. فروسيا دولة يبلغ عدد سكانها 142 مليون نسمة ولديها اقتصاد متآكل معتمد على البترول يقارب حجم اقتصاد كوريا الجنوبية. والواقع أن القوى الثلاث الكبرى في أوروبا: ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، مجتمعة، تتقزم روسيا إلى جانبها من حيث الثروة والسكان، بل تبدو روسيا أصغر وأصغر بالمقارنة مع أوروبا الديمقراطية بأكملها. ومع ذلك تُعد أوروبا ذات أهمية ثانوية في هذه الأزمة، على الرغم من حدوثها على أراضيها.
وينوِّه الكاتب إلى أن الحقيقة الواضحة في نظر الغرب هي أن أمريكا لم تزل هي صاحبة القرار. وتمارس لندن وباريس وبرلين ضغوطًا على البيت الأبيض، واعتمادًا على حجم الأزمة وطبيعة الرئيس، فإن تأثيرها حقيقيًّا. ولكن أيًّا من كان رئيس الولايات المتحدة القابع في المكتب البيضاوي، فإن قراره بالضرورة سيكون أمريكا أولًا. وفي هذه الحالة، يبحر الرئيس جو بايدن في نقاش محتدم بين مؤسسة السياسة الخارجية التقليدية التي تدعو إلى الردع و«المُقيِّدون» الأكثر نفوذًا، الذين يجادلون بأن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل كلفة الانزلاق في حرب أخرى.
طموحات بوتين..
ويشير الكاتب إلى أن جزءًا من لعبة بوتين بالطبع هو الاستفادة من هذا الانقسام، داخل أمريكا وفي طول بلاد الغرب وعرضها. ويشتم بوتين رائحة التردد لدى الغرب ويسعى لاستغلال ذلك.
ويضيف الكاتب: «وفقًا لبعض الخبراء الذين تحدثتُ معهم خلال الأسبوع الماضي، فإن الطموح الكبير للرئيس الروسي هو إخراج أمريكا من أوروبا تمامًا، والتفاوض على صفقة تعترف بروسيا لاعبًا شرعيًّا في النظام الأمني للقارة، بعكس الخسائر التي تكبدتها موسكو في التسعينات عندما أُجبِر جيشها على العودة بخُفَّي حنين إلى داخل حدودها. وأخبرتني فيونا هيل، مستشارة البيت الأبيض السابقة بشأن روسيا، أن بوتين ربما يكون قد قدَّر أن بايدن هو آخر رئيس قادر على التفاوض بشأن مثل هذه الاتفاقية الرسمية نيابةً عن أوروبا قبل عودة محتملة لدونالد ترامب في عام 2024».
ولفت الكاتب إلى أن محللين آخرين تحدث معهم كانوا متشككين في قوة بوتين، مشيرين إلى أن أيًّا من خياراته العسكرية لا يمكن أن تلبي أهدافه، موضحًا أن لورنس فريدمان، الأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كلية كينجز لندن، أخبره أن الخطاب الروسي في الأشهر الأخيرة يشير إلى أن بوتين محبط بسبب الطريق المسدود في شرق أوكرانيا، وغير قادر على كسره دون قوة مسلَّحة، والتي قد تجعل الوضع أسوأ أمام روسيا.
ويقول الكاتب إن ما يلفت نظره في كلتا الحالتين، بصرف النظر عن الطبيعة الهائلة للجريمة التي تفكر فيها موسكو على ما يبدو، هو مدى التموضع الجيوسياسي داخل أوروبا المصمم للتأثير ليس فقط على الأزمة نفسها، ولكن على الشكل المستقبلي للقارة العجوز، بعد اتخاذ بوتين خطوته.
ويشير الكاتب إلى حجم مطالب بوتين، فهو لا يسعى للسيطرة على أوكرانيا فحسب ولكن لإعادة جزء كبير من أوروبا الشرقية إلى مجال نفوذ روسيا وتهديد النظام الحالي الذي يمثلها، وبالتالي فهو يتحدى الهياكل الأساسية للتحالف الغربي؛ الأمر الذي يجبر كل دولة داخله على تقييم كيفية خدمة مصالحها الوطنية على أفضل وجه في المستقبل.
تعزيز التحالف الغربي..
يرى الكاتب أن الأزمة تعمل إلى حد كبير على تعزيز التحالف الغربي، وليس إضعافه. وقد أدَّت تحركات روسيا إلى تنشيط القوة العسكرية الرئيسة في الغرب، أي حلف شمال الأطلسي. وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، تواجه منظمة الناتو خطرًا حقيقيًّا وماثلًا. ومع ذلك مرت سنتان فقط منذ أن غادر ترامب منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وما من أحد في أوروبا ساذج إلى حد الاعتقاد بأنه لا يتمتع بفرصة جيدة لاستئناف رئاسته في عام 2024.
ويُذكِّر الكاتب بأن أساس سياسة ترامب الخارجية هو أن أوروبا وحلفاء أمريكيين آخرين كانوا يحتالون على الولايات المتحدة. حتى أنه وصف الناتو بأنه منظمة بالِية ولم يكن لديه رادع بشأن استخدام الضمان الأمني الأمريكي باعتباره وسيلة ضغط في المحادثات التجارية مع ألمانيا وغيرها.
إذًا تعمل الأزمة الحالية بمثابة تذكير بأهمية حلف الناتو، ومن ثم أهمية العالم الذي تقوده الولايات المتحدة، ولكنها تذكير أيضًا بضعف الحلف البنيوي: الرأي العام الأمريكي. وكما يفهم بوريس جونسون جيدًا، خاصة اليوم، نظرًا لشدة التهديد الحقيقي لمنصبه بسبب فشله في الالتزام بقواعد الجائحة التي فرضتها حكومته، فإن أهم شيء في السياسة العالمية هو روح العصر، سواء كانت الأفكار التي تقوم عليها سليمة أم لا.
ضعف جيوسياسي..
وّه الكاتب إلى عدم الاتفاق عندما يتعلق الأمر بما يجب أن يفعله الغرب لإحياء نفسه، فقد جادل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي بوجهة نظر صريحة مفادها أنه من الواضح أن الوقت قد حان لأوروبا لتأكيد «استقلالها» الإستراتيجي عن الولايات المتحدة، وفي نظر ماكرون، فإن قدرة روسيا على تجاوز أوروبا للتحدث مباشرةً مع الولايات المتحدة أكدت اعتقاده بأن القارة بحاجة لتصبح ممثلًا مستقلًا على المسرح العالمي.
في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورج، قال ماكرون إن الوقت قد حان لأوروبا لإجراء حوارها الخاص مع روسيا، لإنشاء «نظام أمني واستقرار جديد لأوروبا». وهذه نغمة كان يكررها لبعض الوقت دون تأثير يذكر. ولم يكن بإمكانه أن يختار أزمة أسوأ ليؤكد من خلالها على أهمية استقلال أوروبا عن أمريكا. وقد يكون العبث في منطقة الساحل الأفريقي ممكنًا دون الولايات المتحدة، لكن ليست الحال كذلك في التعامل مع روسيا النووية التي أقدمت على غزو دولة ذات سيادة في أوروبا.
ومع إقدام روسيا على الهجوم على أوكرانيا، فما السبب المحتمل الذي قد يدفع أي دولة من أوروبا الشرقية إلى التفكير في استبدال بروكسل بواشنطن بوصفها ممثلًا رئيسًا لها في المسائل الأمنية، لا سيما بالنظر إلى أن باريس وبرلين لم تكونا الأكثر تشددًا بشأن هذه القضية؟
يقول الكاتب إن الحقيقة، والتي يفهمها ماكرون، هي أن أوروبا لا تتمتع باستقلال إستراتيجي، لا في شكلها الأوسع، بما في ذلك المملكة المتحدة، ولا في الاتحاد الأوروبي. ولا يقتصر الأمر على عدم امتلاكها أية طريقة لإبراز قوتها عسكريًّا، ولكنها لا تستطيع مراقبة حدودها مراقبة سليمة، أو ضمان إمداداتها من الطاقة، والتي يأتي معظمها من روسيا. حتى أن الولايات المتحدة وضعت خططًا لتعزيز إمدادات الوقود إلى الاتحاد الأوروبي إذا ردت روسيا على العقوبات الغربية بقطع الوقود عن القارة. ولكن الضعف الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي أعمق من اعتماده على الطاقة والأمن: فالاتحاد الأوروبي ليس لديه وادي سيليكون أو وول ستريت، ولم يزل معتمدًا على النظام المالي الأمريكي والتجارة الصينية.
وفي غضون ذلك كانت بريطانيا، بعد أن عزلت نفسها من الاتحاد الأوروبي، نشطة للغاية في جهودها لتذكير الحلفاء بأهميتها المستمرة. وأصدرت لندن معلومات استخباراتية حول خطط الحرب الروسية، وأرسلت أسلحة إلى أوكرانيا، وقدمت عروضًا دبلوماسية لدعم مجموعة من دول أوروبا الشرقية.
وكانت هذه الجهود هي التي دفعت وسم #GodSavetheQueen ليكون الأكثر رواجًا على موقع «تويتر» في أوكرانيا بعد وصول طائرة محملة بالأسلحة من بريطانيا الأسبوع الماضي (حلقت حول المجال الجوي الألماني لتجنب أية صعوبات دبلوماسية قد تنجم عن سياسة برلين بعدم تصدير الأسلحة إلى مناطق الصراع). وكان الغرض من هذا الجهد هو الحفاظ على دعم الناتو باعتباره المنظمة الرئيسة للأمن الغربي، ومن ثم ضمان عدم تجاهل بريطانيا.
وعلى الرغم من أن السياسة البريطانية المتشددة قد يرفضها الفرنسيون باعتبارها موقف «جعجعة بلا طحين»، فإن الجعجعة لا تخلو من مزايا من وجهة نظر بريطانيا. فلا أحد في حكومة المملكة المتحدة يقترح أن تهاجم بريطانيا، أو لديها أي نية في شن هجوم، لكن يُطربها أن تكون محط أنظار الجميع. فكلما زادت قدرة بريطانيا على إقناع الدول الأوروبية بأنها تظل شريكًا أمنيًّا جادًا، قل احتمال عزلها عن النظام الأمني المستقبلي لأوروبا. وما الذي ستكسبه بولندا، أو دول البلطيق، من دعم الترتيبات الأمنية البديلة التي قد تتحدى هيمنة الناتو، ومن ثم إضعاف الالتزام البريطاني والأمريكي بأمن أوروبا؟
ومع ذلك تظل الحقيقة في عين بريطانيا أنها لا بد وأن تعمل جاهدة للحفاظ على نفوذها لأنها اعتبارًا من 31 يناير (كانون الثاني) 2020 أصبحت خارج الاتحاد الأوروبي، وأيًّا كانت رغبة المملكة المتحدة سرًّا، فإن هذا الاتحاد لن تنمو قوته إلا بوصفه جهة فاعلة مستقلة داخل حلف الناتو.
اللعبة الألمانية..
في الوقت نفسه، تواصل ألمانيا لعبتها التي دامت عقودًا طويلة من التظاهر بأنها ليست «قوة» على الإطلاق. وعلى الرغم من كونها أغنى وأقوى بلد في أوروبا، إلا أنها تتصرف كما لو كانت سويسرا المتفوقة أخلاقيًّا؛ سلمية وموضوعية. وأضاف الكاتب: «قال المسؤولون المحبطون الذين تحدثت معهم إن ألمانيا كانت تحاول التمتع بمزايا الحلف الغربي وتجنُّب عيوبه في الوقت ذاته، والتصقت بقوة في الناتو والاتحاد الأوروبي، وعقدت العزم على الصمود في وجه الانخراط في الاعتبارات الجيوسياسية الأمريكية طالما أنها قادرة على تجنب تحمل أي تكاليف أخلاقية أو اقتصادية غير ضرورية قد تتكبدها لكونها (قوة)».
والمفارقة هي أن كل موقف يتخذه الثلاثة الكبار في أوروبا يقوِّض موقف القوتين الأخريين. وتظل أمريكا الحامية الأبوية لأوروبا، تمامًا كما كانت أوروبا في وضع البلقان التي انهارت في أوائل التسعينات، ولكنها هذه المرة فقط حامية مُسنِّة وأهش مع أعدائها الذين يبدون أقوى مما كانوا عليه. وبعبارة أخرى تتلخص النتيجة في الركود الذي يناسب الجميع في أوروبا؛ فأمريكا تستمر في الدفع، ولا يتعين مواجهة أي خيارات صعبة.
إن مشكلة أوروبا تكمن في أنه مع كل أزمة جديدة، يستمر ضعف التزام واشنطن بنظامها العالمي المهيمن، لكن لا أحد لديه أي فكرة حقيقية عما يمكن أن يحل محل هذ النظام.
ويختم الكاتب فيقول: ومهما حدث بعد ذلك، تبدو هذه اللحظة وكأنها لحظة محورية في القرن الحادي والعشرين. وتظل البلدان التي تشكل حلف الناتو من أغنى المجتمعات، وأكثرها تقدمًا على وجه الأرض. وحتى الآن توحَّد الغرب على نحو مثير للإعجاب إلى حد ما في مواجهة العدوان الروسي. ومع ذلك تبقى الحقيقة أن نصف الإمبراطورية مفرط التوسع، والآخر على العكس تمامًا. وقد لا يحب الأبله والطفل لعبة الشطرنج الجيوسياسية الوحشية التي يلعبها بوتين (أو شي جين بينج)، ولكن حان الوقت لكي يجلسا ويعيدا النظر في القواعد قبل أن يجدا أنفسهما في وضعية «كش ملك».