مقال مترجم للكاتب اشيل وينبرغ
نشر في : مجلة العلوم الإنسانية عدد 35 ديسمبر 2001 /جانفي – فيفري 2002)
ترجمة: ميساء بن بلقاسم
إنغمست عديد التيارات السوسيولوجية المعاصرة في فهم مسألة كيف يفكر الفرد داخل المجتمع. فعلى عكس نموذج اللامثقف المنغمس في معتقداته إكتشفت العلوم الاجتماعية فردا قادرا على تحليل الأطر ، يمتلك قدرات ، يعمل عقله عندما يتصرف ، بإختصار هو يفكر.
لنرى ماذا و كيف ؟
ليس إهتمام علماء الاجتماع بالتمثلات الاجتماعية و دور الأفكار في الحياة الاجتماعية بالجديد. و قد درس أغلب علماء الاجتماع الكلاسيكية التفكير داخل المجتمع تحت خانة التمثلات الجماعية ، الإيديولوجية و الرؤى المتعددة للعالم التي تقيد الفاعلين في محيط عقلي ينفرهم .
بالنسبة لكارل ماركس فإن الإيديولوجيا كما الدين ، مرادفتان للأفيون أما عند إيميل دوركايم فأن التمثلات الجماعية عماد من أعمدة المجتمع.
تلعب الإيديولوجيات ، بالنسبة لعلماء الاجتماع دورا مهما كالذي تلعبه الثقافة بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا ، إذ تشكلان مجموع المعتقدات التي تقوم بتلاحم المجموعات الساجنة للأفراد و المربكة لهم .فلا يؤدي تفكير الأفراد أو المجموعات إلى التعرف بل إلى التصديق و بالتالي ، لم يعد يرى علماء الاجتماع الأشياء على حالها .
اندلعت منذ زمن ثورة كوبرنيكية ضد طريقة إعتبار الفكر داخل المجتمع . فبعيدا عن كوننا الة اجتماعية عالقة ضمن المعتقدات و المعايير، نكتشف أن الفرد في المجتمع يرصد قدرات إدراكية ، فيتصرف باعتباره مستهلكا ، ناخبا، موظفا أو حتى معين منزلي…فالفرد يجادل و يحلل و يفكر. بالمختصر يعتبر كفاءة . ولا تمثل معارفه سوى تمثلات و مرايا تعكس العالم الاجتماعي . و تعتبر هذه التمثلات مكونات العمل الاجتماعي والمساهمة في توجيهه .
من الإثنوميثودولوجية إلى السوسيولوجيا الإدراكية
إن الوعي بالمواقف الإدراكية للفاعلين ، قد فرضته عديد التيارات المختلفة التي يمكن تصنيفها حسب ثلاثة محاور إذ يتمحور الأول حول مقاربات الإثنية (العرقية) و مقاربات السوسيولوجيا الإدراكية .و يدور الثاني حول نظرية الاختيار العقلاني .أما المحور الثالث فيتمركز حول سوسيولوجيا الانعكاسية .
سنة 1967 نشر هارولد جرافينكل مؤلفه دراسات في الإثنوميثودولوجيا الذي سيمثل نقطة تحول السوسيولوجيا الأمريكية . و من ضمن الدراسات التي أجراها المؤلف يذكر قصة شاب متحول جنسي يدعى انياس أجرى عملية جراحية ليصبح امرأة . وما أثار اهتمام هارولد جرافينكل هو طريقة اكتساب انياس أنوثته على صعيد الحياة اليومية (التزين / اللبس على طريقة النساء …الخ…). إذ أصبحت المواقف و الممارسات كما نجدها عند المرأة العادية ، من الممارسات الروتينية و المألوفة . إنها موضوع تعلم طويل ، بالنسبة لانياس .
سمى هارولد جرافينكل المعارف الضمنية و المعارف التطبيقية التي يستعملها الفاعلون الإجتماعيون في حياتهم اليومية الإثنوميثودولوجيا , علم الأعراق .
لتكون قادرا على الطبخ ، على اختيار الملابس ، على التصرف بطريقة لائقة في مطعم ، أو حتى على قيادة سيارة …يجب عليك إتقان حزمة من المعارف التي تصبح خفية بحكم الرتابة رغم أنها مهمة جدا للتطور داخل المجتمع . عندما نسافر إلى بلد نجهله و نجهل حتى قوانينه المدنية (كيف نلقي التحية ، هل يجب أن نمنح النادل بقشيشا ؟ كم؟) فإننا حينها ندرك إثنياته . ترفع الإثنوميتودولوجيا من المعارف التطبيقية العادية و التي نستعد لها بكل حذر . فتبدو لنا و كأنها طبيعية في حين أنها رحلة تعلم داخلي طويلة . و بفعل الزمن ينصهر هذا البناء الاجتماعي ليأخذ تمظهرا طبيعيا .
و ليس علم الأعراق في مضمونه ببعيد عن ما قاله “بيار بورديو” الذي سمى المألفة مشروع السلوكات (طريقة التكلم , الأكل ,اللبس , الإستهلاك…) الصرفة في إطار معين .
اعتبر “علم الأعراق” نقطة إنطلاق مهمة في قلب السوسيولوجيا الأمريكية بداية من الستينات . إذ أسست للإشتغال على المهن , لمعرفة الخبرات و المعارف و أنماط تفكير الأطباء , أصحاب الورشات , التجار و حتى العلماء عندما يمارسون مهنهم .
نهض الأمريكي “ارون سيكوريل” بالسوسيولوجيا الإدراكية ,و طورها في إطار علم الأعراق , ما يفسر التقارب بينهما . تتركز مقاربته أكثر حول دور اللغة و آليات القرار في التفاعلات اليومية . و مرجعها في ذلك صريح بالنسبة للعلوم الإدراكية حيث ولدت سلسلة أشغال حول الطريقة التي نسترجع بها العدالة , التي تمكن التلميذ من إتخاذ قرارات توجيهه .
في فرنسا جاء علم الأعراق و السوسيولوجيا الإدراكية مؤخرا و قد مثلتا خاصة موضوع الإنعكاسات النظرية أكثر من كونهما أشغالا تجريبية كما بينها آخرون مثل “لويس كيري” “باتريك فارو” “برنارد كونين” “ميشال دو فورنال” “ألبرت اوجين” .
عقلنة الإختيارات
مذهب سوسيولوجي اخر , أكثر عقلانية , كان قد قيم دور الإدراك ضمن الفعل الاجتماعي . و يجمع -هذا المذهب- مؤلِّفين مثل “جون إلستير” و “ريموند بودن” إذ توصل عالم الاجتماع النرويجي “جون إلستير” الى نقد نموذج “الإختيار العقلاني” المستعمل في مجال الاقتصاد الذي يفسر سلوكات الوكلاء . و حسب “جون إلستير” فإن الفاعلون عقلانيون جدا , إذ يخططون لأعمالهم اليومية بإستراتيجيات واعية . و لا تتغير سلوكاتهم بفعل القيود أو الإيديولوجيات التي تجعلهم في معسكرات فحسب . في حين لا يتماهى المستهلك او الناخب أو أي فاعل مع المفكر الصارم و السديد الذي يقترحه نموذج “الإختيار العاقل” . يدعم “جون إلستير” تجارب عالم النفس “اموس تفيرسكي” الذي برهن أن الأفراد الذين واجهوا حججا عقلية يسهل إيقاعهم عبر “نزعة إدراكية” . و لا تخلوا حساباتهم و مداخلاتهم و تقديراتهم من عديد الأخطاء . و منذ ذلك الحين , يجب إعتبار الفاعل الاجتماعي شبيها ب ” الحيوان المتجنب للأخطاء الفادحة” عوض إعتباره “حيوانا عاقلا” . إنتبه “جون إلستير” في مؤلفاته العديدة إلى “حيل العمل” التي يوظفها الأفراد للوصول الى الخواتيم . فكيف يوظفون ذلك مثلا لتذليل مشاعرهم أو لحصر إرادتهم الفاشلة بهدف التوقف عن التدخين أو إجبارهم على تنظيم عملهم ؟
أسس عالم الاجتماع “ر.بودون” مقاربة تشبه مقاربة”جون إلستير” . إذ يرفض أيضا أن يعتبر أن أفعالنا موجهة بمعتقدات غير عقلانية , و يختلف مع مقاربة “الإختيار العقلاني” التي تحكم بدون واقعية , كما إستعمل –مثل جون إلستير- نظرية الإنحياز الإدراكي ليأخذ بعين الإعتبار تكوين الإيديولوجيات .
في كتاب “الإيديولوجيا” أو كتاب “أصل الأفكار المسلمة” (فاير 1986) ثم في كتاب “فن الإقناع” (سوي 1992) , باشر بتفسير الإيديولوجيات السياسية أو الأحكام المسبقة مستحضرا عملية الحجاج المنطقي . كما يرى أن المعتقدات أيضا تبدو غير عقلانية مثل الممارسات السحرية التي يمكن أن تتأسس على دقة ظاهرة . كما الطقوس التي تمارسها بعض القبائل عند موسم نزول الأمطار , و ليس سخيفا أن نفكر في ماهية هذه الطقوس و من أسسها . كذلك بالنسبة للإيديولوجيات السياسية مثل “الشيوعية” أو ” العالم الثالث” , اللتان تأسستا على هيكل عقلاني صلب . أغلب الذين يتبنون هاتين الايديولوجيتين استطاعوا الاستسلام لهذا الفخ العقلي , أو بالأحرى الاستسلام لاهتماماتهم و إرادات تصديقهم .
إجمالا و بالنسبة ل”بوردو” , يمكن أن تكون لنا “حجج وجيهة” للتضليل . فنستطيع أن نفسر الأحكام الخاطئة و المعتقدات المتعددة متحفظين في ذلك على موضوع الكفاءة الإدراكية العقلانية حتى و إن كان هذا التعقل غير كامل . و لا يتأتى مصدر “الإيديولوجيا” من المشاعر , بل من القرارات الخاطئة .
اهتم “بوردو” في أعماله الأخيرة بشكل أقل بالأسباب العقلانية للإيديولوجيا مقارنة باليات الإدراك التي تدخل في باب الأحكام المعنوية . لكن النظرية لم تتغير , إذ بقي يرى دائما أن العمل الفني للمنطق (لا للأحكام المسبقة أو المشاعر) يتجسد صلب العزيمة في الفعل .
نهضت مقاربات “جون إلتسير” و “ريمون.بودون” بالعقلانية الإدراكية . فتغذي (حاليا) نقاشا كاملا حول المكان المخصص للمعايير و المشاعر و العقلانية ضمن السياقات و الأحكام .
السوسيولوجيا و الإنعكاسية :
إذا فكر الفاعل و خمن و وزن و تحقق و قيم قبل أن يتصرف , فإن ذلك نتيجة عدم الانحصار الكلي لأفعاله داخل إطار المعايير و الأعراف و العادات و مشاريع العمل الجاهزة .
تحدث السوسيولوجي الأنقليزي “أنطوني قيدين” عن “الانعكاسية” ليفهم بهذه العملية التحليل الذاتي . و تمثل الانعكاسية كفاءة الفاعل “الملتزم باستمرار وسط تدفق السياقات اليومية … لفهم ما يقومون به عند فعله” . إن هذه القدرة الانعكاسية في جزء منها مقصود و عملي (تستبدل هذه القدرة الروتينية و العادات) . فلا توجد حدود واضحة بينهما .
باشر سوسيولوجيون ,في فرنسا, مثل “فرونسوا دوب” “جون كلود كوفمان” “برنارد لاهير” أو “بيار كوركوف” , في اكتشاف دور الانعكاسية في سلوكيات العزيمة . و يتشارك أغلب السوسيولوجيين التحليل نفسه الذي يرى أن انعكاسية الفعل ليست خاصة بفترة من التاريخ الإنساني . فكل المجموعات الإنسانية , كل الأفراد قادرون على ممارستها . و ستعزز الانعكاسية في الفترة المعاصرة مع إنحلال القيود و استعلاء الأدوار الاجتماعية ومعايير السياقات المتقلبة حسبما يقرره الأفراد .
إن عدم “مأسسة” الأسرة و مرونة و عدم استقرار الوظائف , علاوة على كثرة إغراءات الحياة العصرية , تستدعي من الفرد تحليلا ذاتيا و إعادة تعريف مستمرة لاختياراته . يتحدث “ف.دوبت” عن “التمييز” ليضع بعين الاعتبار انعكاسية الفواعل . فالقواعد و المعايير الاجتماعية لم تنشأ واضحة , ما يحمل على التساؤل المستمر حول كيفية تضمينها . كيف يجب أن يتصرف المدرس تجاه التلميذ الذي يعطل الفصل ؟ أيعاقبه , أم يحاوره , أم يتركه في حال سبيله ؟
لا يوجد حضور للتفكير و لا حضور للتحرك مفروض . و يبقى المخزون السلوكي منفتحا حيث الانعكاس المستدام . ة هذا هو حال النساء اللواتي أرهقتهن الحياة في عديد التجليات : المرأة العاملة , أم العائلة , العزباء أو المتزوجة . إن أزمة الهوية الذكورية تفرض على الرجال أيضا أن يعيدوا تعريف سلوكاتهم . نفس الشئ ينطبق على المدير (ما أسلوب الإدارة الذي يجب إعتماده ؟) و الموظف (هل يجب أن يبقى في الوظيفة أم لا ؟)
لا تكفي المألوفات الاجتماعية و البرامج السلوكية “المدمجة و المتكيفة مع البيئة الاجتماعية” أبدا لتعديل السلوكات. لقد أبرز “برنارد لاهير” أنه في كل سلسلة مهام يومية –طريقة تسويق و إدارة عمل- لا يستطيع الفاعل الاجتماعي الاعتماد على تفعيل برامج اللاوعي , بل على العكس , يجب عليه أن يفكر (انظر المقابلة مع برنارد.لاهير , ص 78) .
للتلخيص : يقدم علم الاجتماع الحالي ثلاث اتجاهات من المقاربات لدراسة تفكير الفاعلين الاجتماعيين . يهتم الأول بالعرقيات و المألوفات و المعارف البسيطة . و يهتم الثاني بعقلانيات العمل . و يهتم الإتجاه الثالث بانعكاسية الفاعلين . و تقطع هذه المقاربات مع الرؤية الكلاسيكية للفاعل . و لهذه المقاربات بعض الخصائص المشتركة .
برنامج في طور الإعداد
تقدم التوجهات الثلاثة روية جديدة للفاعل في المجتمع . فلم يعد مجرد “جاهل ثقافي” عند “ه.جارفينكل” , الة اجتماعية رهينة الأعراف و المألوفات و الأيديولوجيات . و لا نعتبره آلة حساب جامدة , يعمل دماغه كبرامج الإعلامية .
وانضم علماء الاجتماع لرفض النموذج “الحسابي” الذي يسعى لتفسير العقل البشري عبر بعض قواعد التشغيل الأساسية . و بهذه المقاربة الجديدة للفاعل الاجتماعي , المنظور اليه على أنه مصلح عقلي , أنتجت قاعدة جديدة في المناهج السوسيولوجية . يميل عالم الاجتماع في التمشي الكلاسيكي , إلى اعتبار أن الفاعل أعمى عن الأسباب العميقة التي توثر على إختياراته . أفعاله و أفكاره لا يمكن أن تفهم في نهاية تمشي “موضعة” السلوكات الخارجية . إذ نربط خياراته الانتخابية أو الاستهلاكية على سبيل المثال بفئتهم الاجتماعية-المهنية لتحليل قراراته اللاواعية . و ترفض الطريقة الجديدة في دراسة علم الاجتماع هذه الفرضية . فإذا كان الفاعل يمتلك بعض المهارات , يحلل , يتعمد و يزن , وجب على عالم الاجتماع أن يأخذ في عين الاعتبار انعكاساته و مداولاته الداخلية . كيف يفكر الطبيب أو ربة المنزل أو هذا المتسكع , و كيف يحللون الموقف ؟ و ما تجليات هذا التفكير على فعله ؟
يمكن اعتبار الفاعل الاجتماعي على طريقته إذا تمكن من تحليل الوضعية الاجتماعية التي يتحرك فيها . تماما كرئيس الشركة الذي يريد أن يغزو السوق , عليه أن يحلل الوضعية الاجتماعية و أن يكون ملما تقريبا بمحيطه . فالطالب في تحريه التوجيه يسعى لفهم مرونة النظام و سير عمل الجامعة ( كثيرا ما يكون مبهم) , و يقيم سوق الشغل و طرق دخول المهنة .
يدقق المستهلك المطلع و يقارن و يتردد و يستفسر قبل أن يشتري . كل هذه الاستراتيجيات تكون أحيانا مفصلة جدا و لا يمكن حصرها في بعض التكييفات الاجتماعية . تنشأ علاقة مزدوجة بين العلوم الاجتماعية و المجتمع . يمكن للخطاب الاجتماعي أن يصبح أحد مكونات المعرفة العامة (دراسة السوق , تمثلات الطبقات , القبائل…) و تصبح معرفة الفواعل معرفة ثانوية في التحليل السوسيولوجي . كما كتب “أ.جيدنز” هناك “معاملة بالمثل بين علماء الاجتماع و الموضوعات التي تشكل جزءا من موضوع دراستهم” .لذلك فإن التوجه الادراكي لعلم الاجتماع المعاصر يطرح مشروعا واعدا . لكن تبقى هذه الأشغال –خاصة في فرنسا- الية بالأساس .
العديد من الأفكار المجردة , مكرسة لتوضيح المبادئ ( ما العقلانية ؟ كيف تتشكل المعايير و الاختيارات الإستراتيجية للفعل ؟ …) . إن الدراسات التجريبية و المواد الموسيقية التي من شأنها أن تقدم جوهر النقاشات , لمفقودة . يدافع “ج.كوفمان” أو “ب.كوركوف” عن برنامج يجمع المواد التجريبية . في ماذا يفكر الفاعلون الاجتماعيون , الأطباء , المستهلكين , رجال الشرطة و طياري الخطوط الجوية ؟ كيف يتشكل تفكيرهم العقلاني و الانعكاسي و كيف تتشكل أفعالهم ؟ كيف الجمع بين القبود و الخيارات ؟ ما مدى أهمية أحلامهم و تحليلاتهم ؟ هل تتماشى مع وجهات نظرهم و أفعالهم ؟